الرواية الفرنسية الكاملة فقد جاءت على لسان النقيب لويوسكي في كتاب الغزوات على أدرار حيث قال :
بدا صيف 1931 واعدا. فقد أصاب فشل أحمد ولد حمادي في يناير, وهجوم
النقيب لكوك على زمور معنويات خصومنا فى الصميم. وإضطرت ندرة المراعي في
الشمال الرقيبات إلى أخذ طريق الجنوب حيث يتواجدون جنبا إلى جنب مع
التابعين لنا, يقاسمونهم موسم التمور (الكيطنة) في واحات آدرار. وساد
السلام موريتانيا. غير ان هذا الهدوء الظاهر لم يخل من قلق عميق. فكان ضباط
مخابراتنا لا يخفون انشغالهم بعيد مقابلاتهم للمسافرين والمبعوثين
القادمين من الشمال. لم يلحق التهالات1والسواعد، قطاع الطرق المستحيل صدهم,
بقبائل الرقيبات الأخرى، وواصلوا الإنتجاع في مراعي زمور المحلة. وقد أنهك
الجفاف كبار ملاك الابل، مما أضطرهم إلى بيعها بثمن بخس، وأصبحت المجاعة
على الأعتاب. وأخيرا لا سيما فى المخيمات, ظهر رجل يحرض على الجهاد ويدعو
الشباب إلى القتال، وتتوالى الكرامات على طريقه. ووجدت الصحراء الساذجة
والمتحمسة وليا جديدا، وبدأت تتحدث من جديد عن طرد النصارى.
أي وجه فريد، محمد المامون ولد محمد فاضل . ولد في شنقيط حوالي
سنة 1873، وذهب سنة 1907 لأداء الحج بمكة. وتأخر في سوريا والحجاز حيث أخذ
العلم عن العديد من العلماء. جاء سنة 1911 إلى فاس, ودعا بحماس إلى الحرب
ضد الفرنسيين. تراجع أمام قواتنا، لجأ إلى تازه Taza حيث قاد المقاومة ضد
المولوية. جرح يوم 20 ابريل 1913، لكن شهامته لم تصب, وفي شهر مايو أعلنته
بعض القبائل سلطانا. أخذ هذا اللقب على محمل الجد، إعتبر نفسه إماما، فعين
مخزنا، وكان لا يتجول إلا تحت مظلة كبيرة خضراء. وقد طلب بإلحاح تدخل القوى
الأوروبية التي كان على علم بعدائها لنا. لكن تبددت الأوهام، ولاحقته
جحافلنا، فهرب إلى المنطقة الإسبانية حيث إلتمس الأمان فناله.أعطي وظيفة
على نفقة تازة Taza لن تكفيه لضآلة دخلها, وخلال بعض الوقت ذهب إلى فاس حيث
ألف كتبا دينية ادعى فيها أن الدابة المنتظرة هي السيارة.وتمر السنوات،
وتنضب موارده. وتعبا من هذا الوجود دون عز، أخذ من جديد طريقه إلى الجنوب
وسيطلب اللجوء عند ابن عمه أمربيه ربه، السلطان الأزرق. كان خطيبا وذكيا،
فرض نفسه على البدو السذج, كولي لأول وهلة. أكتسب شهرته فى البدء, بامتناعه
عن قبول الهدايا, التي كانت تقدم إليه. أخذ يتنقل من حي إلى آخر داعيا إلى
الجهاد، وبعد وقت وجيز اختطف الأضواء. وأخيرا ظهرت الكرامات: الحجارة
تتساقط من السماء وقد كتب عليها محمد المامون مبعوث من الله. وعلى الفور
انكب عليه الأنصار، وذاع الخبر بين الأحياء، وهز الاستنفار موريتانيا: غزوة
تتشكل.
وبدأ الترقب بين الفرق المتنقلة (اصنك), بحماس فى البداية ، ثم
اخذ يخبو كلما انقضت الايام دون جديد. وفي نهاية أغسطس تقرر تسريح أغلب
المقاتلين الذين قدموا لتعزيز قواتنا النظامية.و في 30 أغسطس أقيم معسكر
الفرقة المتنقلة لأطار (الصنك)، التي كانت تبحث عن مراع جديدة فى توجنين
بأعلى الجرف الذي يطل على الباطن1 وسهل إمساكه. و يرافق الملازم لوريني
Lorinet قائد الفرقة، الملازم بلاه Blanc، وأربعة ضباط صف، ثلاثة وستون 63
قناصا، ثمانية وعشرون 28 حرسيا، وعشرون20 من رجال الميليشيات.وينتظر
الملازم بولتي Polletti القادم من الجنوب في قافلة وإسناد تتألف من قناصة
وبعض الحرس. وفي يوم 06 سبتمبر عادت على عجل الدوريات التي تجوب الشمال.
لقد حلت الغزوة! فقد التقوا أناسا التقوها: تتكون من 170 بندقية بقيادة
محمد المامون وأحمد ولد حمادي. وللمزيد من التأكد قاطعت الدوريات آثار
الغزوة عند شار-على بعد 50 كيلو متر إلى
الشمال- آثار تتجه الى الباطن
وفور الفرصة الاولى إستنفر جهاز الاتصال أطار، وتلقى الملازم
جانو Jeannaud المقيم هناك الأمر بالتوجه لتعزيز المربع بكافة الميليشيات
المتوفرة. وأخذ طريقه عند الساعة الحادي عشرة مساء, تصحبه أربعون رجلا.
وأبرق بتحذير الى الملازم بولتي Polletti.في ذات الوقت كان الملازم لوريني
يجري في المربع كافة الاستعدادات للمطاردة. وكان على قناعة فعلا، أن الغزوة
لن تجرؤ على مهاجمته في موقع يتمتع بمثل تلك الحصانة القوية، بل ستواصل
طريقها على امتداد الباطن لنهب الأحياء الموجودة هناك, وتسحق مفرزة بولتي
Polletti التي ستشكل فريسة سهلة.
وللمزيد من الاستعلامات بعث لوريني Lorinet بالرقيب أول محمد ولد
أغناه الله وأربعة من الحرس في الاستطلاع. وعندما اخذ هؤلاء يبتعدون,
إلتفت الرقيب أول صارخا بالحرس: « خذوا حذركم جيدا أيها الرجال, إذ
ستهاجمون هذه الليلة ».إخذت الاستعدادات خلال الليل، فجمعت الجمال وقيدت
استعدادا للمطاردة، تم التزود بالماء، وزعت المؤن الإحتياطية، وأخذ القناصة
والحرس مواقعهم القتالية، ثم ناموا تحت حماية العسس.وبدأ الأرق. ليلة
حالكة لا قمر فيها, وبات العسس وضابط المناوبة يرقبون الظلام، ويفحصون أدق
الأصوات. وتنقضي الساعات. لنذهب، ستكون الليلة كباقي الليالي، لقد أخطأ ولد
أغناه الله.ومع ذلك فالرقيبات كانوا هنا، على مقربة. لقد كمموا أفواه
جمالهم، وتسلقوا بهدوء الجرف, ربطوا حول أعناقهم الرقية البيضاء (خرقة من
رداء الشيخ) التي وزع عليهم محمد المامون وستحيل رصاص الفرنسيين إلى ماء.
كانت قبعة الحرب مشدودة حتى العينين، والرجال نصف عراة للتمويه وللاستراحة
أكثر، وينتظرون عودة قادتهم: فهؤلاء ذهبوا في الاستطلاع، يزحفون حوالي
المربع (المعسكر)، يدرسون موقع القناصة وموقع الحرس، ويحددون بدقة مواقع
العسس، ثم انسحبوا للتشاور. ثم أعادوا من جديد الكرة مرتين دون أن ينتبه
الحرس لأي شيء، أو يلحظوه، حتى الكلاب نفسها لم تنبح.كل شيء جاهز للهجوم:
التهلات يطوقون مربع القناصة من الجنوب، وينتزعون الجمال, والسواعد بقيادة
احمد ولد حمادي ينتزعون المعسكر, وبقية الغزوة بقيادة التقي ولد المامي،
صديق وملازم أحمد ولد حمادي تطوق من الشمال وتهاجم الحرس. تسلل كل واحد إلى موقعه، وأخذ يزحف في صمت إلى الهدف.
عند الساعة الثالثة صباحا أيقظ الرقيب دلبوه Delpont الملازم
لورنيLorinet لاستلام المناوبة. أخذ الملازم برفقة عريف من السكان المحليين
يفتش ثكنة القناصة، ثم تفقد العسس واحدا واحدا، ليقول واحد منهم: « لاشيء
تجدر الإشارة إليه, ملازمي ». توجه إلى مربع الحرس. كان القمر قد طلع للتو
فألقى بضوء خافت على المشهد. ردّ عليه حرسي المناوبة بنفس الطريقة. في هذا
الوقت أطلق أحد العسس طلقة. فكان الرد على الطلقة بالصياح المتوحش, مائة
وسبعون من الرقيبات نصف عراة، مندفعين، يصرخون كالشياطين، اندفعوا الى مربع
القناصة. ولم يجد هؤلاء الذين كانوا نصف نيام, الوقت لتنظيم دفاعاتهم:
تلقفهم الرصاص أو تم طعنهم في مواقعهم القتالية. غرق المربع، ولم تطلق
الرشاشات سوى وابلين بوتيرة سريعة ثم سكتت، لقد جرفت سدنتها زخات الطلقات.
قفز الرقيب أول أورديوني Ordioni إلى مدفع رشاش كان يقع على يمينه، لكن ما
ان وصل إليه, حتى طوق، وتلاقفته الاعيرة النارية. جثا على المدفع صارخا: «
النجدة يا دلبوه Délpont ».والرقيب دلبوه يوجد في وسط المعسكر. ألقى نظرة
فعرف أن الوضع ميؤوسا منه، وعند ما سمع صرخة رفيقه يحتضر، قام على رأس بعض
القناصة لنجدته. فصرع برصاصة في صميم رأسه.استعرت المعركة داخل المربع.
وتهاوى المدافعون الاخيرون الواحد تلو الآخر. وهرب الناجون. مخزن الأغذية
وجهاز اللاسلكي كانا آخر من صمد, لكن قوة الرقيبات كانت لها الغلبة في
النهاية. ونجح الرقيب كييو Guillot المكلف بالراديو, فى اللحاق بالحرس,
تلاحقه الأعيرة النارية ولعنات الغزاة.
ولم يبق من مدافع عن مربع القناصة سوى الجثث. ولحسن الحظ لا يزال
مربع الحرس صامدا. توقف اندفاع رجال التقي ولد المامي، ولم يتمكنوا من
الاقتحام. ومنذ انطلاق الهجوم, اندفع الملازم بلاه Blanc مصطحبا بندقيته
لمقارعة المهاجمين، لكنه قتل برصاصة في صدره. وظل منشورا في مواجهة الأعداء
وقبضتاه على بندقيته، وكأنه يمنع الرقيبات من اقتحام الموقع. وصبر الحرس
وصابروا، وإلتصقوا بالارض. لم يعد الهجوم يتقدم.وحانت الآن ساعة التراشق
المتقطع، والتسديد. وكل واحد يبحث عن وضعية أنسب، ودعامة لبندقيته، ويترصد
الشيح العابر لأحد الخصوم. وبدأت الشتائم تنازع أصوات البنادق، فعلى امتداد
خط النار كانت تتقاطع السباب والتحديات.
فيهتف الرقيبات الذين اعتقدوا أنهم حققوا النصر: « آه! يا عبيد
النصارى، حاولوا أن تتذكروا ضوء النهار، إذ لن تبصروه أبدا. فقبل الفجر لن
تكونوا الا جثثا. »- « تمنوا ذلك، يرد احد الحرس, فهذا الضوء سيكون عليكم
وبالا. فعندما نرى شارات بنادقنا ستحل عليكم اللعنة. » وتتعالى تهديدات
الحرس: « انتظروا فقط أن نرى شاراتنا. »
وسمع فجأة الملازم لوريني Lorinet الكامن في مكان قريب من خيمته،
صوتا مريبا في الداخل. اقترب فإذا به وجها لوجه قطاع طريق شهير, سلمه ولد
لحسن من السواعد, أطلق الأخير النار عن قرب إلا أنه أخطأ فحاول الهرب, غير
أن مسدس الملازم كان قد نطق, فقفز سلمه بست رصاصات في ظهره. وفي ذات الوقت
دار صراع على مقربة من نفس المكان بين الحرسي الشيخ ولد ابراهيم والزعيم
التقي ولد المامي. وبالرغم من كون الحرسي جريحا, فقد تمكن من قتل
غريمه.وأخيرا, وحوالي الساعة السادسة, أصبح الصباح, فأظهر مشهدا كئيبا: جثث
الرجال والمواشي، جمال جريحة تتخبط، أمتعة مبعثرة، شظايا الرواحل
والمعدات, وكان مربع القناصة مجرد ركام من الجثث، خاصة حوالي المخزن ومواقع
المدافع الأوتوماتيكية حيث تكشف الجثث المتشابكة ما اتسمت به المعركة من
ضراوة.
لكن بانبلاج ضوء النهار تغير الوضع، فاصبح الحرس الآن يرون شاراتهم, هم
بالذات الذين يدعون أنهم خيرة الرماة وأضطرت نيرانهم الدقيقة قطاع الطرق
إلى طأطأة الرؤوس واخلاء مربع القناصة على عجل, والاحتماء خلف جانبه
الشرقي.ويبدو أن الهجوم قد تم صده بشكل نهائي. وقضى محمد المامون الليلة
كلها يحرض رجاله، لكنه أحس أن حماسهم أخذ يخبو. ابتعد من أنصاره مصطحبا
بندقية, ثم صعد القمة التي أطلق منها طلقتين باتجاه الصخور السوداء التي
يحتمي خلفها هؤلاء الحرس الكلاب، بل الأكثر مقتا من الكفار، ليسددوا
طلقاتهم القاتلة. لكن انصاره لم تطاوعهم انفسهم بترك الولي يتعرض: فأحاطوا
به واقتادوه عنوة الى مكان آمن.وصمد الرقيب مارتيني في القتال على الجبهة
الشمالية. كان شحيحا في طلقاته، يطلق بأناة، ويتتبع قطاع الطرق من صخرة إلى
أخرى. ومنذ بعض الوقت أصبح يترصد أحد قطاع الطرق إرتمى خلف صخرة، ولم يعد
قادرا على إبراز فوهة بندقيته. إشتاط مارتيني غيظا من عدم التمكن من
إصابته، فقرر أن يغير وضعه، لكنه عندما تعرى ليلقي نظرة حوله، فجرت رصاصة
رأسه.مع ذلك اصبحت نيران حرسنا عنيفة باتجاه الغزاة الذين ازداد عدد جرحاهم
بوتيررة مذهلة. أمر القادة, الذين اصابهم الاحباط, بالتقهقر.في هذا الوقت
بالذات وقع هجوم مضلل: فقد سمع مقاتلان من الطرشان1 كانا فى مخيمهما,
تراشقا طويلا بالنيران، فالتحقا مسرعين. وقريبا من المعسكر, وجدا ثلاثة من
القناصة أفلتوا من المجزرة. فواصل الخمسة تقدمهم, وعندما شاهدوا مجموعة من
الرقيبات, أطلقوا عليها النار. فتفاجأ هؤلاء، وأعتقدوا بمجيئ تعزيزات ضخمة،
فهربوا, يطلقون التحذيرات, باتجاه أصحابهم, الذين دب الذعر بينهم,
فانطلقوا مسرعين إلى جمالهم، تاركين أحد جرحاهم على الطريق.
وعند العاشرة والنصف اختفوا، وأستعيد مربع القناصة. وبدأ المشهد المفجع
للأموات, وأخذ الناجون بالتعرف على زملائهم وإحصائهم. ضابط، ثلاثة ضباط صف،
إثنان وثلاثون قناصا، حرسيان، وإثنان من الميليشيات تختلط جثثهم بجثث تسعة
عشر من قطاع الطرق. خمسة قناصة وحرسي جراحهم قاتلة.وحوالي الساعة الثاني
عشرة, جاء الملازم بولتي Polletti بمفرزته. لقد سمع تبادل إطلاق النار عند
ما كان في الباطن، فدفع الرجال والأنعام، لكن رغم ارادته لم يستطع عبور
الممر المؤدي إلى الظهر قبل النهار. وبولتي Polletti جندي لا نظير له، وهو
امرؤ اشتهر في كل ساحات الوغى من 1917 إلى 1925, وحصل على سبع شهادات, تشكل
كل واحدة منها صفحة من البسالة. فمما يغيظ مثل هذا الرجل فوات معركة
مشابهة. اقترح أن تتم الملاحقة على الفور، لكن لوريتي Lorinet قرر أن ينتظر
التعزيزات, التي انطلقت من أطار مساء يوم السادس, ويتوقع أن تكون غير
بعيدة.و التحق فعلا, جانو وأعوانه خلال الليل. وخلال هذا الوقت كانت الغزوة
تفر إلى الشمال. لم يكن الحماس كبيرا والدعابات النادرة لأكثر الرجال
مراسا، لم تكن تلقى من صدى. فالنجاح لم يكن بالقدر المتوقع، عدد البنادق
والأعتاد المنهوبة كان مهما، لكن ما أهمية سلاح بدون راحلة, فالغزوة لم
تغنم سوى ثلاثين جملا بالكاد، وهذا كله لا يعوض عدد القتلى, أحرى الجرحى.
كان أحمد ولد حمادي يسير وحيدا، مهموما في نفسه: فقد كان يكن محبة للتقي
ولد المامي كشقيق، وقد بقيت جثته هنالك مرتعا للذئاب. وكان محمد المامون
يتباهى, ويفخر بتعطيله الفرقة المتنقلة (الصنك) عن القتال لفترة طويلة,
لكنه لايكاد يخفي خيبة أمله. ومع ذلك, كان الكل يجمع على إستحالة الملاحقة.
« ولحسن الحظ، يضيف أحمد سالم ولد أحمد بابا زعيم التهالات1، إذ أننا بهذا
العدد الكبير من الجرحى، أشبه ما نكون بناقة عرجاء. »كانوا ايضا يستغلون
كافة الوقفات, لعلاج المنكوبين. فيسرع قدماء الغزاة, الذين يتباهون بمعارف
طبية, يحيط بهم الشباب المأخوذ بالاعجاب. فيغلى بول الإبل, ليصب فائرا على
الجراح, ثم تحمر حراب البنادق بالنار, وتمرر عبر الأعضاء التي اخترقتها
طلقة. وعندما يكون ثمة كسر، تكون العملية أكثر دقة: فيجرد العظم بواسطة
موسي حادة جدا، وتنتزع الشظايا، ويربط إلى قطعة خشب (ضفيرة حلفاء), تساعد
على تكوين ندبة (Cal) العظم, ثم تعاد خياطة اللحم.و من جديد تستأنف الرحلة،
فيوثق ذوو الإصابات البالغة بالحبال الى رواحلهم، لتبدأ المسيرة وسط
الأنين الذي تنتزعه مطبات الطريق من أكثر الرجال صلابة وصبرا. توفي أربعة
جرحى أثناء الطريق. وكانت تخفف وتيرة السير, لتسوية أوضاع الباقين على قيد
الحياة. زد على ذلك, أن لا داعي للتعجل.غير أنه فى صبيحة الثامن, غادرت
الملاحقة المربع، وهي تضم ثلاثة ضباط وضابط صف واحد وأربعة عشر قناصا وسبعة
وعشرين حرسيا واثنين وثمانين من الميليشيات.
كانت المسيرة مشيا أو هرولة. وحوالي الساعة التاسعة، أشارت الدورية
الأمامية, التي تقتفي الأثر, إلى أنها عثرت على شيئ ما: إنها يد دامية
مكمشة لأحد جرحى الغزاة ، بترت بخشونة. وعند الساعة العاشرة وجدت مواقد
مطفية وبقع دم كبيرة, تشير إلى موقع توقف الفارين عشية أمس. وعند الساعة
الثاني عشرة, لفت انتباه الجميع صوت طائرة تمر باتجاه الشمال بحثا عن
الغزاة. واستمر السير, فى رتابة, حتى المساء. عطشت الجمال, وقد تكون
الملاحقة طويلة: تبدو السقاية ضرورية. هذا هو الشعب الضيق المؤدي إلى كلتة
شوم Gueltett Choum, وانقضى الليل بسباب الحرس فيما بينهم، وتوجع المواشي،
وكانت الحواجز الصخرية من الضيق, بحيث لم يكن بالامكان ري أكثر من ثلاث
جمال في آن واحد. وأخيرا استؤنفت الرحلة يوم التاسع عند الساعة الرابعة:
وظلت تتقدم. وخلال الظهيرة تم الارتباط بالطائرات التي تكسرت عجلة هبوط
إحداها. وعند الساعة السادسة مساء, تم عبور منتجع رعت فيه الجمال العشب
لساعة. اصبحت بئر أوادي غير بعيدة Aouadi، وبامكان الغزوة ان تترك عندها
دورية، وسيكون من الأحوط تفاديها بشكل التفافي. وقضي الرتل ليلته يزحف
ببطء، والرجال ينهكهم التعب ويتغشاهم النعاس على رواحلهم، متنهدين من لحظة
لاخرى, بعد سنة. وجاءت هبة السماء, عندما هبت عاصفة رملية هوجاء, عند
الساعة الثالثة صباحا, فنسفت الآثار. استسلم كل واحد للسقوط بجوار جمله
البارك, ونام.
لكن الاستراحة لم تدم طويلا، فبعد ساعة هز الضباط، القناصة والحرس: يجب
استئناف السير والوصول إلى ظاية (أضاة) قلب الظليم1 حيث سيتم على عجل
السقاء والتزود بالماء.وجن الليل في حين لا تزال المفرزة المترجلة، تعبر
الكثبان الأخيرة من آزفال Azefal التي تمتد خلفها السهول (أركوكة) 2 Regs
الواسعة لتيرس حيث سيصبح السير أسهل.وفجأة تدوى نداءات من الطليعة، ويتراجع
الرقيب أول بسرعة مصطحبا رئيس دورية ارسلت في المقدمة. وحكى الرجل, المنهك
من شدة الركض أنه دخل في مناوشات قبل ذلك بساعات مع دورية من الغزوة. وبعد
تبادل لعدة عيارات نارية، لاذت الدورية بالفرار باتجاه بئر آغوينيت
Aghouénitt, حيث يتوقع بشكل كبية بأن تكون ثمة غالبية قطاع الطرق.وآغوينيت
يقع على أقل من عشرين كيلو مترا، وهو عبارة عن حوض محاط برؤوس جبلية توجد
بها ملاجئ صغيرة أقامتها قديما الفرقة المتنقلة.وفجأة تم تناسي التعب، ونفخ
كل واحد في مؤخرة بندقيته لتنظيفها من حبات الرمل، ودفع راحلته
بعقبه.وأشتدت وتيرة السير، وعند الساعة العاشرة مساء بركت الجمال مكممة
الأفواه وبدون صوت, عند الرؤوس الجبلية الأولى من آغوينيت. وانطلقت دورية
في الظلام لتستطلع البئر، وترى ما إذا كانت الغزوة هناك.وتمضي ساعة
فساعتان. وكان الرجال الذين سيكون هذا الانتظار صاعقا عليهم، ينامون هنا,
الواحد تلو الآخر.الساعة الواحدة صباحا: ولما ترجع الدورية بعد، ألح بولتي
Polletti وجانو Jeanneau على الذهاب فورا لتطويق البئر والملاجئ واحتلال
القمم، فكم ستكون الفرصة مواتية عند طلوع الفجر، إذا كانت الغزوة لا تزال
هناك. لكن الاقتراح لم يلق حماسا لدى لوريني Lorinet, الذي دعا إلى تحكيم
العقل. الغزوة أشعرت من قبل دوريتها، فإما أن تغادر الموقع أو تنصب كمينا.
فلا يمكن أن نخاطر بما تبقى من الفرقة المتنقلة فندفع به الى كمين.
وتمر الساعات, ولم تعد الدورية ابدا، ومن جهة الشرق تبدإ السماء
بالبياض.وفى الواقع, وعكس كل التوقعات، توجد الغزوة هناك، متمركزة بارتياح
في الملاجئ, وحتى دون حراسة. فقد توقفت هناك مساء التاسع لعلاج جرحاها،
واقتسام الغنائم، وأخذ قسط من الراحة، وهي ليست أبدا في عجلة من أمرها. لقد
عاد بعض الرجال، الذين أرسلتهم للبحث عن اللبن في أحد أحياء الرقيبات،
وحكوا أنهم التقوا حرسا، لكن الأسطورة لم تنل ثقة أحد. فقد يتعلق الأمر على
ما يبدو بمقاتلين من حي ما أصابهم الذعر. وأنهى الجدل، أحمد ولد حمادي عند
ما قال أنه بعد مثل تلك المعركة، فإن الفرقة المتنقلة لن تكون قادرة
إطلاقا، على الدخول في ملاحقة.ها هو الفجر يبزغ: نهض بعض الغزاة لسقاية
جمالهم. وفجأة دوت صرخة: «الفرنسيون!». وبالفعل عندما تعتلي الأكمة, تلاحظ
ركض القناصة والحرس، وبولتي Polletti وجانوJeanneau يطوقان الأطراف، أما
لوريني Lorinet فكان يمشي مباشرة باتجاه البئر.
ساد الذعر داخل الملاجئ، وهم أحمد ولد حمادي، المحاصر، بالصمود في
ذات المكان، لكن محمد المامون, وبالنظر الى هذه الخسائر الكبيرة, قرر
الفرار بأسرع ما يكون.وفورا بدأ الفرار، فيترك الواحد متاعه وراحلته، ويركض
إلى أقرب جمل إليه, ويفر إلى الشمال. ويقفز المتأخرون، فيركب اثنان على
جمل واحد، أو يتشبثون بزملائهم. ولم يعد الأكثر شجاعة يفكرون, بعد ان
جرفتهم العاصفة, في أبعد من النجاة بانفسهم.وللأسف فإن بولتي Polletti
وجانو Jeanneau لا يزالان بعيدين، حتى يغتنما هذه الفرصة السانحة, التي
توفرها هذه الزحمة الشديدة. طاردوا لكنهم كانوا حفاة فلم يستطيعوا اللحاق
بالفارين. وخلال مسافة عشرين كيلو مترا، اختفى العدو مخلفا خمس جثث
وأسيرين.تتوجب العودة. جمعت الغنائم عند الحصون, فاسترجعت كافة الجمال
المنهوبة. ومن ضمن الأمتعة التي تم العبث بها، أمتعة محمد المامون، فأخذ
الناس يتبادلون المصاحف، المناظر، ومظلة الولي (عمامة). ويقهقهه الحرس
بتهكم: أهذا هو الولي الذي اكتشف أهل الشمال, إذا؟في ذات الوقت، كان ولي
الله، يحث جمله المنهك بسرعة متزايدة إلى الشمال، متوهما أن دوي الطلقات لا
يزال يصعق إذنيه, بعد ان لم يستطع إحالتها إلى ماء....نهاية الرواية
الفرنسية التي قدمها النقيب دوتوه لويوسكي في كتاب الغزوات على أدرار...
هكذا أوردنا لكم كل الروايات المتوفرة حتى الأن عن هذه المعركة
الحاسمة التي تم فيها تدمير وإنهاء مهام وحدة جمالة أدرار بقيادة الملازم
لورينيه والتي كانت تشكل حماية قوية لقوات الإحتلال الفرنسي المتمركزة في
نواحي أدرار وتكانت
ولكن الأهم والأكثر رمزية في تفاصيل هذه المعركة الحاسمة هو أنها
تعطي حقيقة التلاحم التاريخي بين شعوب المنطقة التي فرقها الإستعمار
الأوروبي ...فقيادة سليل بلاد شنقيط العلامة المجاهد محمد المأمون بن الشيخ
محمد فاضل بن محمد لهذه المعركة جنبا إلى جنب مع باقي قادتها من مجاهدي
الرقيبات يثبت وحدة الهدف والمصير مهما كانت عظمة التحديات